الربع الخالي.. الغالي

كل مكان على وجه الأرض يتميز بجمال خاص وسمات ساحرة. فالصحراء ساحرة بهدوئها، ورمالها الذهبية، واتساع أراضيها، ونقاء نسيمها، وصفاء سمائها الممتلئة بالنجوم. وصحراء الربع الخالي لها طعم خاص، كما يقال! فهي تتفوق بسحرها، وجمالها، واتساعها، وغموضها، وصعوبة مسالكها، وخطورة السفر بها. ولا بد أن تشعر بأن الربع الخالي رمال لا تنتهي! لا يعكر هدوء الليل بها إلا همس الرمال العازفة عندما تتناقلها الرياح في دوامة متحركة. وربما تكون محظوظًا لتعثر على قطع صغيرة من الصخور الرملية الملتحمة بعضها ببعض، وقد أحكم الخالق صنعها من خلال الرياح، يطلق عليها اسم «وردة الصحراء». والربع الخالي ليس خاليًا في الواقع، لذلك يحلو للبعض أن يسميه «الربع الغالي»، لأنه يتميز بجغرافية طبيعية وبشرية فريدة، ويحتوي على ثروات نفطية ضخمة، وتسكنه قبائل عربية كثيرة من أبرزها قبيلة آل مرة.

لقد شرفت بأن أكون ضمن الرحلة الاستكشافية العلمية للربع الخالي التي نظمتها هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، فلها أقدم الشكر الجزيل والتقدير العميق على إتاحة الفرصة لي بالمشاركة في الرحلة المفيدة التي شارك فيها العديد من العلماء من داخل المملكة وخارجها. فهذه مبادرة علمية مفيدة عسى الجامعات السعودية العريقة تحذو حذوها وتقوم برحلات مماثلة للربع الخالي وغيره من مناطق المملكة التي هي بحاجة إلى مزيد من الدراسة والبحث في كافة التخصصات من الجيولوجيا والآثار والحياة الفطرية إلى الإنسان وحياته عاداته وتقاليده وأنشطته. فعلى مؤسساتنا الأكاديمية واجب تجاه كل رقعة من مملكتنا الغالية ينبغي أن تؤدى.
وفي هذه المقالة المختصرة، سأحاول استعراض مصادر المعلومات عن الربع الخالي، ثم تقديم موجز لبعض المشاهدات المتعلقة بالجغرافيا الطبيعية، وبعد ذلك سأركز على الإنسان في الربع الخالي، وأختتم بإبراز بعض المقترحات والآراء التي تمخضت من خلال الرحلة إلى منطقة الربع الخالي. وتحسن الإشارة إلى أن هذه المقالة عبارة عن انطباعات عامة ومشاهدات أولية، ولا أدعي فيها جديدًا عما هو موجود في بعض الكتب والدراسات العلمية التي تناولت الربع الخالي.

من أين المعلومات عن الربع الخالي؟
أود أن أشير قبل الحديث عن مشاهداتي إلى أن مصادر المعلومات عن الربع الخالي تكاد تنحصر في المصادر التالية:
ـ كتابات الرحالة الغربيين، مثل: برترام توماس الذي اخترق الربع الخالي في 1931م، وعبد الله فيلبي الذي قام برحلته المعروفة في عام 1932م، وثيسيجر (أو مبارك بن لندن، كما يسمى) الذي قام برحلته في عام 1945م وغيرهم. وتمثلت كتاباتهم في مشاهدات عامة وشاملة تناولت الجيولوجيا والجيموفولوجيا، والحياة النباتية، والحياة الحيوانية، والإنسان. ويعود لهم الفضل في تسجيل المشاهدات الأولى التي أصبحت مصدرًا أوليًا لدراسات الربع الخالي.
ـ شركة أرامكو التي قامت بإجراء دراسات علمية كثيرة ركزت على الجيولوجيا المتعلقة بالبترول والمياه، وأسهمت في رسم الخرائط.
ـ وزارة الزراعة والمياه (سابقًا) ركزت في دراساتها ومسوحها الميدانية على الأحواض المائية وخصائص المياه في مناطق متعددة من الربع الخالي.
ـ الهيئة الوطنية للحياة الفطرية وإنمائها التي اهتمت بالحياة النباتية والحيوانية.
ـ كتابات الجغرافيين أمثال الشيخ حمد الجاسر، وعبدالله الوليعي، وعبد الرحمن الشريف، وعبدالله الغنيم، وعبدالله الشايع وغيرهم. وتجدر الإشارة إلى أنني لا أعلم بوجود جهة اهتمت بدراسات الإنسان في الربع الخالي، خاصة في منطقة ثرية بتراث البادية! والإنسان –كما يقال – هو محور اهتمام العلوم وهدف التنمية.

جغرافية الربع الخالي
على خلاف ما يعتقد، فإن اسم الربع الخالي قديم نسبيًا، ولا تعود التسمية إلى كتابات الرحالة الغربيين – كما يعتقد البعض. فعلى الرغم من أن هذه التسمية لم ترد في كتابات الجغرافيين الأقدمين مثل الأصطخري وابن حوقل والمقدسي، فإن اسم الربع الخالي ورد في كتابات شهاب الدين أحمد بن ماجد (890هـ) – كما يشير إلى ذلك عبدالله الغنيم. وتجدر الإشارة إلى أن الربع الخالي يعرف بأسماء كثيرة تطلق على بعض أجزائه في القديم ومن قبل أبناء البادية في الوقت الحاضر. فعلى سبيل المثال، يسمى الجزء الشمالي الغربي «رمل يبرين» نسبة إلى واحة يبرين، ويطلق اسم «البوح» و«السنام» على بعض الأجزاء في وسطه، واسم «الدكاكة» على الجزء الجنوبي الواقع شمال الخرخير، و«الأحقاف» على الجزء الواقع شمال هضبة حضرموت، وكذلك «رملة يام» على الجزء الجنوبي الغربي، و«عروق بني معارض» و«الرميلة» على الجزء الغربي, وهكذا. وهذا في الواقع ما أكده بعض الذين قابلتهم من أبناء الربع الخالي خلال الرحلة. ولكن لا بد من القول أنه لا توجد حدود واضحة بين كل مكان من هذه الأماكن والآخر، بل تختلف المسميات وقد تتداخل جغرافيًا في بعض الأحيان.
والربع الخالي هو جزء كبير من مملكتنا الشاسعة وتتقاسمه منطقتان إداريتان، هما: المنطقة الشرقية ونجران. ولا يقتصر امتداد الربع الخالي الشاسع على المملكة بل تقع بعض أجزائه في كل من الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان، واليمن. ويعد أكبر صحراء رملية متصلة في العالم، إذ تصل مساحته نحو 640 ألف كم2. ويسود المناخ القاري في معظم المناطق الصحراوية الداخلية في شبه الجزيرة العربية، ومنها الربع الخالي، إذ يتسم بالتطرف الحراري أو ارتفاع المدى الحراري وتباين درجات الحرارة بين ساعات اليوم الواحد (الليل والنهار) أو بين الفصول (الشتاء والصيف). وعلى الرغم من ندرة بيانات المناخ عن الربع الخالي، فإنه يعد من أقل مناطق المملكة من حيث كميات الأمطار الساقطة. وهذا يجعل بعض أجزائه قاحلة جدًا، وتكاد تخلو من الحياتين النباتية أو الحيوانية، خاصة في سنوات القحط. وتجدر الإشارة إلى أن تصنيف المناطق الصحراوية يعتمد على كمية الأمطار بدرجة رئيسة. فالمناطق التي تقل كميات الأمطار الساقطة بها عن 250 ملم سنويًا، يقال إنها «صحراء». وفي الربع الخالي لا يسقط من الأمطار حتى نصف هذه الكمية.

أشكال الرمال والكثبان
تتكون طبوغرافية الربع الخالي في معظمها من بحر من الرمال. ففي بعض المناطق الجغرافية خارج الربع الخالي يمكن أن يقال إنها عبارة عن كثبان رملية وغيرها من مظاهر السطح كالجبال والأودية والسهول والفياض وغيرها. ولكن في الربع الخالي لا يوجد غير رمال ورمال.. ورمال لا تنقطع على مد البصر، ولكنها تتلوى وتتنوع وتتلون بألوان مختلفة من مكان إلى آخر. فمنها الهلالية والطولية والنجمية والمعقدة والمتشابكة، بعضها ثابت نسبيًا وبعضها متحرك. ويتأثر تشكيلها – بشكل عام - باتجهات الرياح أو الرياح السائدة. ولا شك أن هذا التنوع في أشكالها وألوانها يضفي جمالًا ساحرًا لصحراء الربع الخالي، وربما ألغازًا محيرة تجعل الإنسان يفكر في قدرة الله سبحانه وتعالى وبديع صنعه. فهناك أنواع وأشكال متعددة يمكن رؤيتها وتمييزها بسهولة. كما أن ألوان الكثبان تتغير من منطقة إلى أخرى تبعًا لطبيعة الصخور المكونة لها. وفي الحقيقة، يمكن للقارئ الاطلاع عليها والتعرف على بعض أشكالها من خلال الصور الفضائية التي يوفرها موقع«جوجل إيرث» (Google Earth). ومن أبرز أشكال الرمال في الربع الخالي ما يلي:
- الكثبان الهلالية المرتفعة، وتقع في الجزء الشمال الشرقي من الربع الخالي. وتتميز عروق الشيبة بارتفاع شاهق مقارنة بالرمال التي مررنا بها، إذ يقدر ارتفاعها نحو 300 متر فوق سطح الأرض.
- الكثبان النجمية التي تأخذ شكل النجمة وتقع – في الغالب -في الجزء المتاخم للحدود مع سلطنة عمان.
- الكثبان الطولية، ويطلق عليها «العروق» أو «حبال الرمل»، وتقع في النصف الغربي من الربع الخالي، وتمتد لعشرات الكيلومترات، ويمكن الاطلاع على أشكالها من خلال مرئيات الأقمار الصناعية المتوافرة على شبكة العنكبوتية (internet)، كما ذكر آنفًا.
- الدكاك أو الدكاكة، وهو نوع من الرمال تقع في جنوب الربع الخالي إلى الشمال من الخرخير، وهي عبارة عن رمال مستقرة تنتشر بها النباتات، وتتميز بتلبد الرمل وتماسكه، لذلك لا تبدو صعبة الاختراق بوسائل النقل التقليدية (الجمال) أو الحديثة (السيارات).

السباخ والمياه الفوارة
وقفنا على بعض السباخ الكثيرة التي يزخر بها الجزء الشرقي من الربع الخالي، ومن أبرزها سبخة الحمر (وبها أخفض نقطة عن مستوى سطح البحر في الجزيرة العربية، إذ تقدر بـنحو 25 مترًا تحت مستوى سطح البحر)، وسبخة مطي، وسبخة أم السميم وغيرها. ويعزى وجود هذه السباخ الكثيرة في شرقي الربع الخالي إلى ارتفاع مستوى المياه الجوفية. وتمتد هذه السباخ عشرات الكيلومترات في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، تمتد سبخة مطي أكثر من 30 كيلومترًا. وتعد سبخة «أم السميم» أكبر السبخات الداخلية في الجزيرة العربية ويبلغ طولها نحو 100 كم.
قد تكون وفرة المياه في الصحراء أمرًا مستغربًا للقارئ! نعم لأن الصحراء تعني ندرة الأمطار وقلة المياه! ولكن هذا هو الواقع، فقد لاحظنا وفرة المياه في الربع الخالي بكميات كبيرة، وخاصة في الجزء الشرقي منه، إذ توجد على مقربة من السطح بعدة أمتار. وفي حالات معينة، تتدفق المياه في بعض المناطق على سطح الأرض دون استخدام مضخات، بل تنطلق في الهواء لعدة أمتار بشكل فوار، مثل بئر المهولة بالقرب من الخرخير وكذلك في «أم الحيش» (أو عين حميدان)، ومركز ذعبلوتن. ومعظم هذه الأماكن عبارة عن آبار حفرتها شركة أرامكو أثناء نشاط التنقيب في الربع الخالي وتركت بعض الآبار تتدفق. وقد سمعت في وسائل الإعلام مؤخرًا أن وزارة المياه تعتزم الاستفادة منها. وعلى الرغم من وفرة المياه في الجزء الشرقي على وجه الخصوص، إلا أن معظمها غير صالح للشرب لارتفاع نسبة الملح به من جهة، ووجود بعض المواد الكيمائية الأخرى كالكبريت وغيره من جهة أخرى. ولكنها في بعض المواقع تكون المياه قابلة للشرب من قبل الحيوانات كالجمال وغيرها، أو حتى الإنسان عند الحاجة القصوى. وإلى جانب الآبار الارتوازية، توجد بعض آبار مياه صالحة للشرب يطلق عليها «قلمة» أو «بئر» حفرت من قبل بدو الربع الخالي، مثل قلمة آل حجيش، وبئر هادي.

يتبع................

سهول حصوية منكشفة
يلاحظ وجود سهول حصوية منكشفة كثيرة، خاصة في الجزء الأوسط والغربي من الربع الخالي، مما يؤيد ما كتب عن وجود أنهار منحدرة من الغرب إلى الشرق قبل تكون رمال الربع الخالي، خاصة أن بها بعض فتات صخور الدرع العربي، مثل ما ينكشف بوضوح في منطقة تقع إلى جنوب شرق يبرين على مسافة 100 كم تقريبًا .

«وبار» ما بين الحقيقة والأساطير
لقد وقفنا على موقع سقوط النيزك في وسط الربع الخالي. ويطلق عليه «الحديدة» لوجود قطعة النيزك المتكونة من معدن الحديد في معظمها. وفي هذا المكان تظهر على سطح الأرض بقايا الحديد والرمل المنصهر نتيجة حرارة النيزك الشديدة عند سقوطه. ولكن الفوهة التي أشار إليها «فيلبي» لم تكن موجودة بسبب الرمال المتحركة. وتشير الدراسات إلى أن هذا النيزك سقط على الأرض منذ 300 سنة تقريبًا. وحول هذا المكان المسمى بـ«وبار»، كثرت القصص والأساطير التي هي إلى الخيال أقرب. فكان يعتقد أن «وبار» وهو المكان الذي سقط فيه النيزك، مكان مساكن قوم عاد، الذين أدى غضب الله عليهم أن دمر مدينتهم بقلاعها وحصونها، ولم يبق منهم إلا آثار مساكنهم، كما ورد في القرآن الكريم (سورة الفجر). وتتمادى الأساطير – كما يذكر الشائع في كتابه الجديد (في أرض البخور واللبان) بالنص:لعل أقرب الأمثلة على ما حيك حول }إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد| التي تحولت إلى جنة دفنتها الرمال بناها «شداد بن عاد» من الذهب والفضة وفرش أرضها بالدر والياقوت والكافور!! ويشير الغنيم – أيضًا -إلى جانب آخر من الأساطير التي تقول: «بأن أرض وبار ... كانت أكثر الأرضين خيرًا وأكثرها ضياعًا وأكثرها مياهاً وشجرًا وتمرًا، فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم، فأشروا وبطروا وطغوا، وكانوا قومًا جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حق نعم الله عليهم.. إلى آخر الأسطورة. وزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادًا وثمود أسكن الجن في منازلهم وهي أرض وبار، فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرًا ونخلًا وخيرًا وأعذبها عنبًا وتمرًا وموزًا فإن دنا رجل منها عامدًا أو غالطًا حثوا عليه التراب وإن أبى إلا الدخول خَيَّلوه، وربما قتلوه.» وأقول: لا بد أن «فيلبي» كان يعتقد بوجود مساكن عاد وآثارهم. لذلك كان يحلم باكتشاف هذه المدينة خلال رحلته إلى الربع الخالي. وللدلالة على ذلك يذكر في كتابه عن الربع الخالي:«سيطرت علي خلال خمسة عشر عامًا فكرة واحدة، وطموح واحد، أو بالأحرى هاجس واحد، سعيت إلى تحقيقه دون هوادة وبكل إخلاص وعناد وتفان». ويقصد رحلته إلى الربع الخالي. ولعله من المناسب الإشارة إلى الإصرار والفضول العلمي غير العادي لدى كثير من الرحالة الغربيين. وعلى أية حال، عندما وصل فيلبي إلى «وبار» بمساعدة أبناء البادية، كتب يقول:«وصلت قمة الحيد وفي تلك اللحظة فهمت جيدًا أسطورة «وبار». فقد كنت أنظر من تحتي ليس إلى خرائب بل إلى فوهة... وكانت هناك فوهتان امتلأتا إلى نصفيهما بالرمال الزاحفة... ولم أدر ماذا أفعل: هل أبكي أم أضحك ... (أمام) المنظر الذي بدد أحلام السنين!».

حقول الذهب الأسود
تنام رمال الربع الخالي على ثروات طبيعية ضخمة، بعضها مكتشف ومعروف والبعض الآخر في الطريق إلى الاكتشاف. ومن أبرز الثروات النفطية، يقع حقل الشيبة في وسط عروق الشيبة في الجهة الشمالية الشرقية من الربع الخالي. وهو من الحقول المهمة لأنه يحتوي على بلايين البراميل من الزيت العربي الخفيف جدًا ذي الخصائص الممتازة. فعلى الرغم من اكتشاف هذا الحقل منذ 1968م إلا أن تطويره لم يبدأ إلا في عام 1995م وذلك للعوائق الجغرافية والمناخية المحيطة به. إلى جانب حقل الشيبة، يقع الطرف الجنوبي لحقل الغوار، أكبر حقل بترولي في العالم، في شمال الربع الخالي، وبالتحديد في منطقة يبرين.

الإنسان في الربع الخالي
لا شك أن دراسات الإنسان في الربع الخالي نادرة وتكاد تنحصر في مشاهدات الرحالة الأجانب وبعض الكتابات الأخرى هنا وهناك، مما يتطلب اهتمامًا بهذا الحقل من الدراسات البشرية. وعلى أية حال ينقسم السكان في الربع الخالي إلى قسمين:
ــ المستقرون وشبه المستقرين في المدن والهجر، وهم يمثلون الأغلبية. فقد كانت أضواء المدن جاذبة، وإغراؤها قويًا، بحيث جذب معظم سكان الصحراء للاستقرار في المدن والهجر، إما طلبًا للعمل والدخل المستقر الدائم، أو طمعًا في الخدمات التعليمية والصحية لأبنائهم. فمن الملاحظ انكماش نمط البداوة وتقلصه خلال العقدين أو الثلاثة الماضية في المملكة بوجه عام وفي الربع الخالي على وجه الخصوص. ولكن هناك فئات من سكان البادية يستقرون بعض الوقت في المدن والقرى، وعندما يأتي الربيع ينتقلون إلى الصحراء بماشيتهم سعيًا وراء الكلأ. أما قسم آخر منهم فيفضل أن تستقر الأسرة (الزوجة والأبناء) في المراكز العمرانية لتلقي تعليمهم، في حين يتنقل الأب (رب الأسرة) بين مكان استقرار أسرتهم ومكان وجود قطعان ماشيته التي يساعده في العناية بها رعاة من خارج المملكة.
ــ الرحل الذين يقطنون الصحراء ويتنقلون من مكان إلى آخر، وهم قلة قليلة، على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة ترصد أعدادهم وخصائصهم. ومن خلال الرحلة في الربع الخالي، علمنا بأن بعض الأسر تستقدم أحد العرب، وخاصة من السودان أو مصر، للقيام بتعليم أبنائهم أصول القراءة والكتابة والحساب، ليلتحق بعضهم – بعد ذلك - بإحدى المدارس القريبة عن طريق الانتساب.

قبائل الربع الخالي
هناك قبائل كثيرة تقطن الربع الخالي أو بعض أطرافه. وتتميز كل قبيلة بتقاليدها وعاداتها المميزة لها. ومن القبائل التي تقطن الربع الخالي، قبيلة آل مرة ويرتبط أسمها بالربع الخالي، ويقطن أفرادها في معظم أجزائه، وآل كثير (ومنهم آل راشد والعفار وآل خوار) ويتركزون شرق الربع الخالي، أما قبيلة الصيعر فهم في الجنوب بالقرب من شرورة. ومن قبائل الربع الخالي المناهيل الذين يتركزون في الخرخير وما حوله، والمهرة في جنوب الربع الخالي في مناطق الحدود مع عمان واليمن. أما قبيلة يام فتقطن الجزء الجنوبي الغربي، والدواسر في الجزء الغربي، كما يتخذ المناصير والعوامر المناطق في الشمال الشرقي من الربع الخالي مقراً لهم. وقد تسنى لنا مقابلة أفراد من بعض هذه القبائل.

اللغة المهرية في جنوب الربع الخالي
ومن أكثر الأمور إثارة سماع أفراد قبيلة المهرة يتحدثون بلغتهم المحلية التي لا يمكن لأحد فهمها أو فك رموزها إلا من يتقن هذه اللغة ويعرف أصولها. وهذه اللغة تبدو من اللغات القديمة جدًا السائدة في شبه الجزيرة العربية. ولا شك أن هذه اللغة تستحق الاهتمام من قبل علماء اللغة والمتخصصين في اللغات القديمة من علماء التاريخ والآثار، إذ لا أعلم بدراسات علمية لبنية هذه اللغة وتراكيبها وأصولها.

العمران في الربع الخالي
لا يوجد في الربع الخالي إلا عدد قليل من المدن والهجر (الدائمة وشبه الدائمة!). فعلى اتساع مساحته وترامي أطرافه، تتركز معظم المراكز العمرانية في الأطراف الشرقية والجنوبية والغربية والشمالية. ولا توجد مراكز عمرانية تذكر في وسط الربع الخالي لصعوبة الصحراء وقسوتها. فطرق القوافل التي يسلكها المسافر هذا اليوم – على سبيل المثال - يمكن أن تختفي غدًا تحت الرمال المتحركة. ومن الملاحظ أن بعض الهجر يقطنها البدو في بعض المواسم فقط، مثل الشلفا بالقرب من يبرين. فلم نجد بهذه الهجرة عندما مررنا بها إلا ثلاثة من العمالة الوافدة يقومون برعاية بعض الإبل التي فضل أصحابها أن تبقى بالقرب من هجرة الشلفا بدلًا من الانتقال إلى شمال المملكة مع قطعانهم، حيث تتوفر المراعي المناسبة بعد أن حظيت تلك المناطق بهطول الأمطار هذا العام.
كما يلاحظ أن هناك بعض الهجر التي تتسم باستقرار دائم لسكانها، ويوجد في الربع الخالي 18 هجرة ينتمي سكانها إلى قبيلة آل مرة.
ويمكن تصنيف هذه الهجر إلى نوعين: النوع الأول عبارة عن هجر ذات استقرار دائم، وتتوفر بها معظم الخدمات الضرورية كالتعليم والصحة والكهرباء مثل يبرين والخن وأم أثلة وحرض. والقسم الثاني لا تتوفر بها الخدمات وبالتالي يكون الاستقرار بها موسميًا أو شبه دائم. ويمثل هذا النوع معظم الهجر. وبناء عليه، يتضح أن معظم الهجر تفتقر إلى الخدمات الأساسية وبخاصة التعليم والصحة والمياه الصالحة للشرب. وفي بعض الأحيان، فإن عدم وجود استقرار دائم للسكان في بعض الهجر أدى إلى صعوبة توفير الخدمات العامة فيها.

التوصيات
• دعم دراسات الربع الخالي وتشجيع إجراء دراسة تفصيلية عن سكان الربع الخالي من النواحي الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية لمعرفة أوضاعهم المعيشية والصحية (الفقر، البطالة، الإعاقة وغيرها)، وعن حالة المراعي وتأثير الإنسان عليها، وكذلك عن المراكز العمرانية وأوضاعها وإمكانات النمو المستقبلية بها.
• تنمية المراكز العمرانية (الهجر والقرى والمدن)، وخاصة أنها مراكز عمرانية حدودية، وذلك من خلال توفير الخدمات بها ودعم الأنشطة المناسبة حسب الإمكانات المتوافرة، بما لا يؤثر على البيئة العذراء والطبيعة الساحرة. وبناء عليه، فلا بد أن يكون التطوير والتنمية في سياق ما يعرف بالتنمية المستدامة، أي التنمية التي تحقق احتياجات الحاضر دون الإضرار أو التضحية بمقدرات الأجيال القادمة.
• توفير المياه الصالحة للشرب في الهجر والمناطق السكنية.
• زيادة الوعي لدى أبناء البادية بأهمية المحافظة على البيئة وحمايتها من الرعي الجائر والتلوث.
• النظر في إمكانية جعل الربع الخالي منطقة إدارية ضمن المناطق الإدارية في المملكة وذلك لمساحته الشاسعة والتجانس في سماته الجغرافية والسكانية من جهة، والمسافة الطويلة بينه وبين منطقة نجران أو المنطقة الشرقية من جهة أخرى، وذلك تأييدًا لمقترحات سابقة بذلك.
• أتمنى لو نظمت الجامعات رحلات علمية للمناطق التي لم تنل نصيبًا من الدراسات من أجل تسليط الأضواء عليها وتشجيع الباحثين لدراستها.
في الختام، لا بد من القول إن الرحلة الاستكشافية العلمية للربع الخالي أثارت تساؤلات كثيرة في أذهان الباحثين، وحفزتهم لإجراء مزيد من الدراسات العلمية، وسلطت الأضواء على هذا الجزء الغالي من بلادنا.