مدرسة الديوان
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحـــمـد لله رب العــالميـن، والصــلاة والســـلام على أشـــرف الأنبياء والمرســـلين، ســــيدنا محمـد وعلى آله وصحبه أجمين، ســـــبحانك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، رب اشــــرح لي صدري ويسر لي أمري.
أما بعد:
أقدم هذا البحث دراسة حول جماعة الديوان بصفتها مدرسة نقدية هامة شاركت النهضة الأدبية الحديثة في مرحلة التجديد، واعتبارها المساهمة الفعالة في إرساء المقومات النقدية للشعر العربي المعاصر. في هذه الدراسة لمدرسة الديوان وحركتها التجديدية، يجدر العودة إلى مرحلة سابقة عنها لمعرفة كيف كان الشعر والنقد وحالة الأدب بصفة عامة قبلها، ليسهل التعرف على مظاهر التجديد في دعوتها، ومدى فعاليتها في تطبيق الأسس الجديدة على الشعر، وإلى أي مدي يصل هذا التجديد بالشعر العربي التقليدي.
فعلى هذا الأساس تم تقسم البحث إلى فصول ثلاثة، فالفصل الأول تمهيد ضروري للموضوع، وفيه إشارة إلى حال الأدب في عصر ما قبل النهضة، ثم بيان مظاهر النهضة الحديثة، وبوادر التجديد للأدب، والفصل الثاني التعرف على مدرسة الديوان: أعضائها وتكوينها وثقافتها ومجال دعوتها وجذورها، وأهمية دورها في التطور الأدبي، والفصل الثالث عرض شامل لدعوتها ونقدها للأساليب القديمة، وما وضعت من مقومات وأسس نقدية جديدة، وإلى أي مدى كان التطبيق الفعلي لها. ثم خاتمة البحث خلاصة لما سبق عرضه، وأهم النتائج المتحصلة من دراسة الموضوع.
وبالله التوفيق والهداية
--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الأول
الأدب العربي الحديث
أولاً: الأدب العربي قبل عصر التجديد:
" النهضة الأدبية في أي عصر من العصور مرتبطة إلى حد كبير بالنواحي السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والقومية للشعب، ومدينة إلى حد كبير بقيمة الفرد ومدى إحساسه بذاته وشعوره بنفسه كعنصر بشري مؤثر في جميع هذه النواحي ومتأثر بها، والأدب العربي قد عايش هذه الظروف وتأثرت بها على مختلف صورها في عصور مختلفة:
العصر التركي: قد كان الأدب العربي في مصر تحت الحكم المملوكي هامد خامد، وظل في مجتمع أعجم لا يُحفَل به، ولم تكن له ثمة هزات فكرية تؤثر أو هزات اجتماعية أو سـياسية توقظ أو دعوات إصلاحية ترود، وكانت اللغة بقايا مبهمة من تعابير سقيمة، ولم يعد في استطاعة كثير من كتاب أن يسـلموا من اللحن الفاحش، أو يأتوا بالفهم المقبول بل عز عليهم اللفظ الجزل والأسلوب القوي فلجئوا للزخارف والمحسنات.
أيام الحملة الفرنسية: لم تكن حياة الفن أيام الحملة الفرنسية بأحسن مما كان عليه، فلم تؤثر في عواطف الناس وإن كانت قد أثرت في عقولهم، ولم يخرج الشـعر عن حالته السابقة، فبقي مطموراً في أضابير التخلف والتأخر والانعزالية عن مسايرة الركب.
عصر محمد علي: لم يكن بعصر ازدهار للشعر ولا للأدب بنوع عام، فلم يتجه بالنهضة اتجاهاً ثقافياً بقدر ما يكون اتجاهاً مادياً علمياً يهدف إلى التطوير العسكري، وقد استولت الصناعة والسخافة على دواوين شعراء هذا العصر من تأريخ وتطريز وتخميس وتربيع وتضمين ليس فيه قليل معنى ولا عظيم غرض، ولا له بالخيال معرفة، ولا في اللغة نصيب مفيد، إنما هو نماذج قرأوها من عصور قريبة منهم وأخذوها وكأنها غاية الفن وقمة الشعر.
عصر إسماعيل: اهتم بالتعليم والحياة النيابية، وأنشئ دار العلوم وسرت روح الإصلاح في الأزهر، ونهض فن الطباعة، وظهرت حركة إحياء التراث القديم، وانتشرت كتب التراث، وكثرت المدارس الأجنبية وظهرت الدعوات الإصلاحية على يد الأفغاني ومحمد عبده، وتطورت العلوم وتطورت اللغة لتفي بالحـاجة، كما كان النمو القومي، والاتصال بالغرب والاحتكاك عن طريق البعوث، وبدأت الصحافة تتنوع، وتخصص بعضها في الأدب والشعر ونهض بهما ".
--------------------------------------------------------------------------------
ثانياً: النهضة الأدبية الحديثة:
بدأت النهضة الأدبية الحديثة مصاحبة بتطور الشعور القومي تحت وطأة الاحتلال الأجنبي، والرغبة في الاستقلالية الذاتية بالعودة والدعوة إلى إحياء التراث، فكان من العوامل الهامة للنهضة الأدبية الحديثة:
"ظهور المطبعة، إذ أتاحت للباحثين والدارسين أن يطلعوا على كثير من الدواوين الشعرية للشعراء القدامى في العصور الذهبية، ورواد العصر العباسي، وأتيح لهم الوقوف على المؤلفات العلمية والأدبية القديمة التي تدور حول علوم التفسير والحديث والفقه وصناعة الشعر والنثر.
ظهور فن الصحافة، وتمثلت في الصحف اليومية أو مجلات أسبوعية أو شهرية، وكانت تحوي مواد متعددة منها ما يتصل بالسياسة والاقتصاد، وما يتصل بالأدب والنقد، مما رأى فيها الأدباء متنفساً وطريقاً يذيعون من خلاله أدبهم شعراً ونثراً.
إنشـاء المدارس المتخصصة، والمعاهد العلمية النظامية، والمجامع الأدبية واللغوية، إلى جانب ما كان موجوداً وقتئذٍ، فأخرجت طائفة كثيرة من المتخصصين، الذين كان لهم دور بارز في النهوض بالأدب، والرقي في المقاييس النقدية، مما سـاعد على أن تتوارى تدريجياً الثقافة الهابطة الضعيفة التي كانت تعيش معهم إلى عهد قريب.
ظهور جيل من الشـعراء أحيوا في شـعرهم صورة الأدب العربي القديم في عصر ازدهاره وقوته، وهذا العمل تم أولاً على رائد الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي.
تطور حـركة النقد الأدبي، بقيام الأدباء والنقاد ببعث الكتابة النثرية الأدبية في كتاباتهم، إلى جانب بعث طريقة القدماء في تحليل النصوص الأدبية ونقد الأدب".
"في نهاية القرن التاسع عشر قام فريق من الشعراء الذين ورثوا صناعة الشـعر من البارودي بالمناداة إلى ضرورة التجديد استجابة لدواعي العصر، لأن الزمان قد تغير، إذ ليس زمان المحدثين مماثلاً لزمان الأقدمين، فظهر بعض النداءات لشعراء هذه المرحلة، في المرحلة الأخيرة من مراحل شعرهم تدعوا إلى ضرورة الإتيان بشيء جديد يعكس حاجة العصر، من مثل: أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، وتعتبر هذه المرحلة مرحلة الانتقال إلى محاولات التجديد"، "إذ كانوا يترسـمون هذا المثل الذي ضربه البارودي، مثل الاحتفاظ بجزالة الأسـلوب ورصانته، أما بعد ذلك فهم يفرضون ثقافتهم وعصورهم على شعرهم وما ينظمون منه".
--------------------------------------------------------------------------------
ثالثاً: المحافظة والتجديد:
( أ ) المحافظون: مفهوم المحافظة:
"تقوم منهجهم على تقليد الشعر العربي في المنحى والأسلوب من شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته ونصاعة التركيب، وتعلقت بكل مقوماته. والعودة إلى الآداب العربية القديمة هي مبدأ النهضة الأدبية المعاصرة، وينتظم للمذهب طائفة كبيرة من شعراء النهضة في مقدمتهم: شوقي وحافظ وخليل مطران والرافعي، وكان روادها يتفقون في أن يلتزموا بسلامة الأسلوب وصحته من حيث اللغة والإعراب، ولم يشذوا عن نهج القصيدة العربية، ثم هم بعد ذلك لا يكاد يجمعهم جامع آخر، فإن كلاً منهم يمضي مع ثقافته وفهمه لحقيقة الشعور على حسب ما أتيح له من شاعرية وإبداع".
"فبعضهم فهم المحافظة فهما خاطئاً على أنها الاستناد إلى تراث الأقدمين الحضاري، وترديد مضامين شعرهم وأفكارهم، ولا يخرج الشعر عن سننهم في الأسلوب والتعبير والوزن، فحفظ قاموسهم اللغوي، وفهم بعضهم على أنها سير على نهج من سبق، فألغى نفسه وراح يستفتح الدمن، واستعمل النسيب فتشكا الوجد وبكى الفراق، وبعضهم فهمها على أنها نقل صور الماضي بما فيه، سهوله ونوقه وخيامه وليلاه، فحاكاهم في ذلك كله، ولم يدر أن ذلك هو الجمود والتكرار والفقر والضحالة، وأنه كرر نفس المواقف، ولم يزد، ودعا نفس العواطف ولم يجدد، فهموها من زاوية ضيقة، فحجر على عواطفه وإحساسه وخياله وتجاربه، ليظل محجوزاً بين أحاسيس الأقدمين".
"كانت مدرسة (المحافظين) امتداداً لمدرسة البعث التي رادها البارودي بكل ما يعنيه الامتداد من احتذاء وبعث وتطوير، قد أطلق هذا المصطلح عليها ليس لأن شعراءها مجرد ظلال باهتة أو قوية لمن سبقهم من الشعراء الغابرين أو المحدثين، ولكن لأنهم قد استطاعوا المحافظة على العناصر الصياغية، والشكل الهيكلي للقصيدة، كما هي في عصور تألق الشعر وازدهاره، وعلى الروح العربي المنتمي إلى تراثه الحضاري والفني، ولعل هذه المحافظة على الشكل والروح والانتماء هي التي أعاقت شعرائها عن عالم آخر جديد، ولكنهم مع ذلك قد أعطوا للحركة الشعرية الحديثة من حضورهم التاريخي، ومن ثقافتهم المتنوعة، وإطلالهم بالشعر إلى عوالم جديدة وأجناس أدبية مستحدثة".
(ب) المجددون: ثورة على الجمود والتكرار:
"في العقد الثاني من القرن العشرين، أمام أحداث عالمية ومحلية، الحرب العالمية الأولى، والاحتلال الأجنبي في البلاد العربية، كان لها أثر في إحداث روح متمردة قلقة عند الأدباء، فعبروا عن روح القلق والتمرد والإحساس بالظلم فيما صـاغوه من أدب، فنادوا بضرورة أن يكون الأدب معبراً عنها، غير منفصلة عن أحداث العصر، فانتقدوا شعراء القرن التاسع عشر الذين امتدت بهم الحياة إلى مطلع قرنهم، إضافة إلى ما حصلوه من ثقافات أجنبية، إنجليزية أو فرنسية، كان له أثر في تكوين روح التمرد، ورأوا أن الأدب الأجنبي يؤدي أهدافاً وغايات أوسع مما كان بين أيدي أدباء الجيل السابق، وكذلك فإن الروح الذاتية التي تشيع في الأدب الأجنبي أوحت إليهم أن الأدب هو الذي يكوّن شخصيةً مستقلة للأديب". ولهذا ظهرت عدة اتجاهات مختلفة يمثلها أدباء وشعراء ومدارس.
(ج) المدارس الأدبية الحديثة: تيارات لتعدد المذاهب وتنوع الثقافات:
"ظهرت بوادر التجديد منذ بدأ الشعور القومي يملأ الصدور، وتلفت الشعراء إلى ألوان الشعر العربي وضروبه، فشاركوا في تصوير هموم الشعب وموقعهم من الركب الإنساني، فانتقوا ألواناً تلائم العصر وأسلوب الحياة الجديدة، ويستسيغها طبع التغيير. وتنوعت دعوات التجديد بألوان من المذاهب الفلسفية والنفسـية الغربية وتأثرت بها، وبدأت تطبق بحق أو باطل على الأدب العربي، وراح الشـعراء يفكرون في التجديد ويحاولونه ويدعون إليه. وأول من فكر في التجديد شوقي، إذ نعى على الشعراء تسخير أشعارهم للمديح الذي يغل المواهب، وعاب نجيب الحداد فقدان الشعر العربي للوحدة العضوية، ودعا إلى الوحدة العضوية ومجاراة الطبع، ودعا نجيب شاهين إلى أن يكون الشـعراء عصريين ويدرسوا الشعر الأجنبي، وينبذوا القديم وأغراضه الباطلة،كالمدح والهجاء وبكاء الأطلال وديار الأحبة، وكثيرون غيرهم، ولكن تبدوا هذه الدعوات في هذه الفترة ساذجة.
وظهرت مدرسة (الديوان) تصدر دواوينها الشعرية حاملة بذرة التجديد الحقيقية، ومفهومه الواعي للشعر وغايته ووسائله وصلته بالفنون والحياة، وتجسيده لحس الشاعر، وتصويره لأفكاره وانطباعاته وأعماقه في اتصاله المباشر بالحياة"،"وظهر بعدها أدباء المهجر، وجماعة أبولو، وجماعات أخرى في الساحة الأدبية لا ينتمون إلى مدارس معينة، خاصة النقاد الذين ينتمون للحقل التعليمي". ونظراً للمصادر الثقافية لأدباء ونقاد فترة التجديد "التي تعود إلى منبعين: الثقافة العربية الأصيلة، والثقافة الأجنبية"11،فإن للأخيرة أثرها عند بعض أنصاره بدعوتهم إلى الاحتذاء بالأدب الغربي والتغيير الشامل في الأدب العربي مبتعداً عن الأصول العربية، فبدت ظواهر جديدة تدعوا إلى الواقعية، وامتد إلى الأدب ولغته المظاهر السلبية من التجديد. والفصل التالي نستقل بمدرسة الديوان لما لها السبق في حركة التجديد المنظم في الأدب العربي، وعملها الدأب في الرقي به، والدفاع عن شخصية الأدب العربي وملامحه المستقلة، الذي يعبر عن الحياة بالروح العصرية، والمستمد من المنبع العربي الأصيل.
--------------------------------------------------------------------------------
الفصل الثاني:
الديوان: مدرسة التجديد
أولاً: مدرسة الديوان:
( أ ) التسمية والتأسيس وأعضاء المدرسة:
" جماعة الديوان مصطلح يُطلق على مجموعة من الشعراء النقاد، هم: عبد الرحمن شكري، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني،وهذا المصطلح إنما هو نسبة إلى هذا الكتاب النقدي المعنون باسم: "الديوان في النقد"، وهو كتاب ألفه العقاد والمازني فحسب، وإن كانت التسمية تشمل الثلاثة معا".
"عباس محمود العقاد: ولد بأسوان سنة 1889م لأسرة مصرية متوسطة، ولم يكمل دراسته في المدارس الرسمية، بل أخذ يكملها بنفسه، رحل عن بلدته وهو في السادسة عشرة، والتحق ببعض الوظائف الحكومية، ثم تركها إلى القاهرة وعمل بالصحافة، وكتب في جريدة البلاغ الوفدية، فنهض فيها بالمقالة السياسية، مقتبساً كثيراً من آراء المفكرين والفلاسفة الغربيين، وخاصة في مجال الحرية وحقوق الشعب والسياسة، وينقل إلى قرائه مباحث الأدب والنقد الغربية ويشفعها بنظرات تحليلية. أخرج أول دواوينه سنة 1920م، ونال سنة 1960م جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهاً بأعماله الأدبية، وأهم ما يميزه مواقفه الثابتة في الحياة وفي الآراء الأدبية، توفي سنة 1964م.
إبراهيم عبد القادر المازني: ولد بالقاهرة سنة 1889م، عمل في التعليم والصحافة، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، نظم الشعر أولاً ثم كتب القصة بأسلوب ضاحك تغلب فيه على كآبته الأصلية، يميل في أسلوبه إلى الدعابة والسخرية وإبراز المفارقات، يؤدي مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وانطباعاته بالروح المصرية. توفي بالقاهرة سنة 1949م.
عبد الرحمن شكري: ولد بمدينة بورسعيد سنة 1886م، درس الثانوية، والتحق بمدرسة الحقوق ولكنه فصل منها لتحريضه الطلاب على الإضراب استجابة لزعماء الحزب الوطني، فاتجه إلى دراسة الآداب التي كانت تتفق وميوله، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج سنة 1909م، التزم فيها الدرس الصارم في الأدبين العربي والغربي، وذهب في بعثة إلى إنجلترا، عمل في صحيفة الجريدة، كتب فيها عن علاقة الشعر بالفنون ونحوه من الموضوعات التي كانت تعد حينئذٍ جديدة، توفي بالإسكندرية سنة 1958م".
(ب) الخلفية الثقافية للمدرسة:
"حظهم من الثقافة العربية يكاد يكون متفقاً، فالعقاد يقول عن شكري: (لم أعرف قبله ولا بعده أحداً من شعرائنا وكتابنا أوسع منه إطلاعاً على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية، وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علماً به، وإحاطة بخير ما فيه، وكان يحدثنا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها). ولقد كان إطلاع العقاد مضرب المثل في وسعه، فكان يحيط إحاطة بفروع اللغة العربية وآدابها، عارفاً بدقائقها. والمازني هو اللآخر حظه من العربية أقوى من حظه من الثقافة الإنجليزية.
يتبع.............