نهوض الأمة ورقيها معقود بصحة التعليم وجودة التربية، والمناهج الأرضية وطرائق البشر مهما أوتيت من قوة واجتمع لديها من خبرة فإنها تقف عاجزة عن تحقيق الكمالات، وعن التناغم مع الفطرة السوية، والسبب هو أن هذه المناهج لا تخلو من هوىً بشريٍ جهول، أو نظرةٍ ضيقةٍ محدودةٍ مع ضعفٍ في الشعور الداخلي الصادق ـ المراقبة ـ الذي هو بلا شك مؤثرٌ كبيرٌ على سير العمل التعليمي والتربوي، ولذا فإن من المهم ـ والمهم جداً ـ إدامة النظر والتأمل في الأساليب النبوية في التربية والتعليم وذلك لأمور:
أولاًً: أن الله بعث نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- معلماً ومزكياً، ومبشراً ونذيراً {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]؛ فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً»(1)؛ فالحكمة مِنْ بَعْث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّم الناس، ولذا كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها تربية وتعليم، مما يجعلها غنية جداً بالأساليب التربوية والتعليمية.
ثانياً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوتي الكمـال البشري، وعُصم من الخطأ الذي يقدح في تبليغه للدعوة «فأي عاقل حريص على مرضاة ربه يخيَّر بين الاقتداء بالمعصوم، الذي يكفل له السير على صراط الله المستقيم، وبين الاقتداء بمن لا يُؤمَن عثاره، ولا تضمن استقامته على الحق ونجاته..»(2)، لقد أعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ مع أميته ـ علماً لا يدانيه فيه أحد من البشر -صلى الله عليه وسلم- {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
ثالثاً: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها معلم أو مربٍّ في أي زمانٍ ومكان؛ فما من حالة يمر بها المربي أو المعلم إلا ويجدها نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريباً منها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة.. فكان يتعامل مع كل مرحلة وكل حالة بما يناسبها.
لقد ساس النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، ودعاهم وعلَّمهم وأحسن تربيتهم؛ مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، وجفاء طباعهم وتنافر أمزجتهم، لقد كان حال العرب كما وصفهم جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف..»(1).
فاحتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هم فيه من جفاء، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمـة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن {وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2].
إن الذي ينظر إلى الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تعيش انتكاسة في الفطرة والعقيدة والأخلاق، لَيرى كم هو الدور الكبير الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أحدث نقلة ضخمة في زمن قياسي. يقول «كارليل» وهو يقارن بين حال العرب قبل البعثة وبعدها: «هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدَّة قرون؛ فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم»(2).
رابعاً: وجود دعوات ضالة كانت ولا زالت تنادي بضرورة نقل أسلوب التعليم والتربية من الغرب العلماني أو الياباني الوثني دون نظرٍ إلى المبادئ والقيم والثوابت الشرعية. إننا قد نستفيد منهم في بعض الوسائل والطرائق ـ في توصيل المعلومة مثلاً والتي اعتمدوا فيها على تجارب ودراسات وجهود مضنية وافقوا فيها الصواب في أحيانٍ كثيرة - أما أن نأخذ ما نزاحم به ثوابتنا وقيمنا فلا يصح أن نختلف في رده والوقوف أمامه. إن من المحزن المبكي أنك تجد دول الغرب الكافر تحامي عن مبادئها، وتخشى على قيمها، بينا ترى أهل الإسلام أهل الملة الخالدة يبقون وكأن العبث بالثوابت لا يعنيهم، أوَ ليس هو شيئاً ذا بالٍ في نظرهم؟
تنبيه: حين نريد أن نقف على المنهج النبوي الصحيح في التربية والتعليم فلا بد أن نفرق بين السمات الثابتة في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وبين السمات التي تستدعيها حالات معينة توجب نوعية معينة من التعـامل، وإليك بعض الأمثلة توضح ذلك:
- (الرفق واللين والرحمة) سمات ثابتة في الهدي النبوي لا تكاد تفتقدهـا وأنت تطالع السيرة؛ كيف لا وقد أنزل الله قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
بينما تجد - الشدة، الزجر - تكون أموراً عارضة لأحوال عارضة ناسب أن يتعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الأسلوب.
- مثال آخر (الجدية، والعمل) سـمة ثابتة في المنهج النبوي بينا ترى ـ المزاح، والترويح ـ وإن وُجدا في أمثلة متعددة في الســنة والســيرة النبـوية فإنهــا مــع ذلك لا تـــزال محــدودةً لا تستدعي تحويل المنهج التربوي إلى منهجٍ هزلي هزيل يعتمد على الفكاهـة واللعب.
إن المتأمل في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً ولا مناسباً في مثل هذه العجالة، ولكني أقف مع بعض هذه الأساليب النبوية التي أرى الحاجة ماسة إلى التنبيه عليها:
■ أولاً: الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال:
أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرف الولد والمتربي بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.
ولقد كان من يقابل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه.
جاء صفوان بن عسال ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب...»(1)، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتـي الطالب ليشـارك في حلقة قـرآن أو منشط خيري فيقابـل بشــيء مــن البـرود (.. لا بأس، اجلس مع زملائك..) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.
- وعن أبي رفاعة ـ رضي الله عنه ـ قال: «انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله ( وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها»(2).
عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب!! هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار ـ في المدرسة مثلاً ـ لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟
- ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى..»(3)، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية»(4)، وروي في وفادة وائل بن حجر ـ رضي الله عنه ـ على النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر به أصحابه قبل قدومه، فقال: يأتيكم بقية أبناء الملوك. فلما دخل رحب به، وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده»(5). وقدم وفد عبس على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا تسعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا عاشــركم. وعقد لهــم لــواءً وجعل شــعارهم «يا عشرة»(6). إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.
■ ثانياً: الرفق والرحمة وحسن التأني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
لقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الرفق سبباً من أسباب الكمال والنجاح؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(7). وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حُرِمَ الرفق حُرِمَ الخير»(8).
على هذه القاعدة العظيمة في التعامل (الرفق والرحمة) كان تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي اله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالـد أُعَلِّمُكُم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها...»(9)، فتأمل كيف ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب اللطيف في التعليم، وكم سيكون له من أثر في نفس السامع..!!
وعن مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيماً رفيقاً؛ فلما ظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم»(10) الحديث. إن هذه الرحمة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الشباب فيها التوجيه إلى ضرورة مراعاة طبائع النفوس، الشيء الذي قد يغفل عنه بعض المربين بحجة (الجدية والحزم) فربما كلفوا النفوس ما لا تطيق، وحَمَلوها على ما يسبب لها الانقطاع.
وتتأكد الحاجة إلى الرفق والرحمة عند وقوع الخطأ غير المتعمد؛ لأن النفوس أحياناً قد يستثيرها الخطأ فتنسى التعامل معه بالرحمة والرفق، وتميل بقوةٍ إلى الردع والتأديب؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ عطس رجُلٌ من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منــه؛ فوالله ما نهــرني ولا ضــربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن»(11).
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء فأُهريق عليه»(1)، وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن»(2).
تأمل هذا الموقف لو وقع في مسجد حيِّك، لو أن ـ رضيعاً ـ بال في مصلى النساء فكم ستتابع على أمه كلمات التعنيف وربما السب، وسيكون ذلك حديث جماعة المسجد، وأهل الحي أياماً.
إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعاً من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحاً وتحقيقاً للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر.
■ ثالثاً: الثناء والتشجيع:
الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.
- عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله! مَنْ أسعد الناس يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِـمَا رأيت من حرصك على الحديث....»(3).
- وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح «وفي رواية» فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة»(4).
- وعن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْـحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] قال: فضرب صدري، وقال: لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم»(5).
- وعن أبي أيوب ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله! أو يا محمد! أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لقد ـ وُفِّق أو لقد هُدي» ثم يُقبل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: كيف قلتَ؟...الحديث»(6)، انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية.
كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.
والثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.
- عند الإمام مسلم(7) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الرؤيا التي رآها فقصها على أخته حفصة ـ رضي الله عنها ـ فقصتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل». فيا ترى ما أثر ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن عمر ـ رضي الله عنــه؟ (قال سالم: فـكان عبد الله، بعـد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً).
- وفي قصة سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ في (ذي القرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعد أن أبلى سلمة ـ رضي الله عنه ـ بلاءً حسناً، ثم ناموا في الطريق. قال سلمة ـ رضي الله عنه ـ: فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا: سلمة. قال: ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً، ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العضباء راجعين إلى المدينة»(8)، تأمل هذه الحادثة، وكم فيها من الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ ففي قوله: «وخير رجالتنا سلمة» إعلان للتكريم أمام مجمع من الصحابة. ثم إن في إعطائه سهمين مكافأة أيضاً وتقديراً لجهوده، ثم في إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- له على الدابة زيادة في التكريم والتقدير له، ولك أن تتصور مقدار التكريم حين يُركبك القائد معه في مركبته الخاصة تسير بصحبته أمام الناس ـ كم سيضاعف هذا الثناء والتقدير من نشاطٍ في نفس سلمة أو أبي قتادة رضي الله عنهما، بل كم سيحرك في نفوس الآخرين حين يكون المدح في محله!
إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور، بل ربما يموتون وتمــوت مواهبهــم وقدراتهـم؛ لأنهـم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.
إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهـد المجتهـد منهـم فحسب، بل إننا نحــرك نفــوســاً ربمــا لا يحركها أسلوب آخر.......!!
■ رابعاً: التدرج ومراعـاة الحال:
حين نرجع إلى المعنى اللغوي للتربية نجد أن من معانيها النمو والزيادة، ومنه أيضاً التدرج (فالتربية جهود تراكمية، يرفد بعضها، بعضاً والزمن واضح في قولهم: تربى، وتنشأ، وتثقف؛ فالتنشئة والتغذية والتثقيف لا تكون أبداً طفرة ومـرة واحدة، وإنما تتم على مراحل متتالية...)(1)؛ وذلك لأن (للجوانب التي تتطلب التـربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعلهــا في وقتٍ وجهدٍ أمراً عسيراً ومتعذراً)(2).
ثم إن المتربين والمتعلمين ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك، ولا على درجة واحدة في الحرص والرغبة.
يتبع........