الأم هي مصدر الحنان والرعاية والعطاء بلا حدود والجندي المجهول الذي يسهر الليالي لرعاية ضعفنا وهي شمس الحياة، الإسلام قدم الأم بالبر على الأب لسببين الأول أن الأم تعاني بحمل الابن وإنجابه وإرضاعه وتربيته أكثر مما يعانيه الأب مصداقا لقوله تعالى في سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}، والسبب الثاني أن الابن كثيرا ما يغتر ويتساهل في حق أمه عليه لما يرى من عطفها ورحمتها وحنانها وهي فطرة فطرت عليها.
جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك: قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال:أبوك. الأب هو الذي يتعب ويكافح من أجل تحقيق حياة آمنة حافلة بالاطمئنان والاستقرار لأبنائه، وهو الحنان الممتزج بالحزم والقوة الذي يستطيع أن يقود سفينة الحياة إلى بر الأمان فيوفر لأبنائه السلام، تستطيع أن تصفه بالمعلم وخبرة الحياة، ومن يقسو أحيانا لمصلحتنا. وللأب حق الإحسان إليه وطاعته والتأدب في التعامل معه، وقال رسول الله (ص) "أنت ومالك لأبيك"، من نماذج البر عند السلف أنه روي أنه قيل لعمر بن زيد: كيف بر ابنك بك؟ قال: ما مشيت نهارا قط إلا وهو خلفي، ولا ليلا إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا وأنا تحته". لماذا نبر بآبائنا؟ قال تعالى في سورة الإسراء {وقضى بك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقال رب ارحمهما كما ربياني صغيرا، ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}.
لقد جعل الله عز وجل الإحسان إلى الوالدين تاليا لتوحيده وعبادته لوجوه متعددة أولها تعظيما لمكانة وشأن الوالدين عند الله، وثانيهما أنهم سبب وجود الابن وسبب التربية، والثالث أن الله سبحانه خلق بالفطرة فيهما حبا لأبنائهم وأملا في أن يحظوا في الحياة بنصيب أعظم، ورابعا أنهما لا ينتظران أي مقابل لرعايتهما لنا، والمؤمن هو من يوفقه الله لبرهما فهما باب من أبواب الجنة. قال رسول الله (ص) "ما من مسلم له والدان مسلمان ويصبح إليهما محتسبا إلا فتح الله له ما بابين من الجنة"، وقال: " بروا آبائكم تبركم أبنائكم"، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: سألت رسول الله (ص) "أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أي. قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ".
دوافع دنيوية ودينية لبر والديك هناك أكثر من تسعة عشر سببا تعينك على بر الوالدين، فأولها إقامة التوحيد لله عز وجل، باعتبار أنك حينها ستسعى لطاعة أوامره ومنها بر الوالدين ويكون برك بالوالدين حبا لله، أما العامل الثاني فهو الاستعانة بالله عز وجل لإعانته على البر كأحد الطاعات في الحياة، أما العامل الثالث فهو تطبيق الشهادة للإسلام عمليا، ورابع العوامل قراءة القرآن الكريم والعمل بما فيه، ومن بين العوامل أن تعلم جيدا أنه كما تدين تدان ولنستمع للقصة التالية: " ذكر العلماء أن رجلا كان عنده والد كبير، فتأفف من خدمته، فأخذه وخرج إلى الصحراء ليذبحه، فلما وصل إلى صخرة أنزله هناك. فقال: يا بني ماذا تريد أن تفعل بي؟ قال: أريد أن أذبحك، قال بني هل هذا جزاء الإحسان؟.. قال الابن: لابد من ذبحك فقد أسأمتني.. فقال الأب: يا بني إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند الصخرة التالية.. فتعجب الولد وقال: ما ضرك أن أذبحك هنا أو هناك؟ قال: يا بني إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند هذه الصخرة فقد ذبحت أبي هناك.. ولك يا ابني مثلها".
العامل السادس المعين على بر الوالدين هو التزام شرع الله وكثرة العمل الصالح من باب أن الطاعة تؤدي لطاعة والعكس صحيح وقال تعالى {فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره للحسنى، وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى، فسنيسره للعسرى}، ومن أسباب بر الوالدين البعد عن موفقة الناس فيما يصنعون لأنه أحد أسباب عقوق الوالدين. لقد أخبرنا الله عز وجل عن قصة بلغت الغاية في بر الوالدين وهي قصة إسماعيل مع أبيه إبراهيم عليهما السلام لما أمر بذبح ولده فما كان من إسماعيل إلا الاستسلام لأمر الله والسمع والطاعة لولده، وفي سورة الصافات {.. يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الابن: يا أبت اشدد رباطي كيلا اضطرب، والقف ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فينقص أجري، وتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع بها على حلقي ليكون أهون علي.. فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله". فضائل البر إذا عرفت فضائل بر الوالدين فلن تبارحهما إلا وهما راضيان أشد الرضا فمن ضمن الفضائل تفريج الهموم قال رسول الله (ص): "بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها صالحة فأدعو الله بها لعله يفرجها، اللهم أنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وأنه ناء بي الشجر فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما.. والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا فرجة نرى بها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء...".
التوفيق في الدنيا والآخرة ومن فضائل بر الوالدين التوفيق في الدنيا والآخرة ومثال على ذلك قصة أم علقمة في عهد رسول الله (ص) التي كان ولدها يفضل زوجته عليها فلم يتمكن من قول الشهادة قبل الممات فقال الرسول (ص):"يا معشر المهاجرين والأنصار من فضل زوجته على أمه فعليه لعنة الله وملائكته والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحسن إليها ويطلب رضاها.. فرضا الله من رضاها وسخط الله من سخطها".
سعة في الرزق وزيادة في العمر ينال الإنسان برضا الوالدين سعة الرزق وزيادة العمر وتكفير الكبائر، وأن تكون للبار ثواب الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، وله حسن الخاتمة والفوز برحمة الله ومغفرته وقبول الأعمال والتجاوز عن السيئات، قال تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}. ومن فضائل بر الوالدين دخول الجنة فعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: قال رسول الله (ص): "من أصبح مطيعا لله في والديه، أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن كان واحدا فواحدا، ومن أمسى عاصيا لله في والديه، أصبح له بابان مفتوحان من النار وإن كان واحدا فواحدا، قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه. وإن ظلماه، وإن ظلماه". وجاء عن رسول الله (ص): " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق والديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق والديه، والديوث، والرجلة ".
وفي حديث آخر قال (ص): " كل الذنوب يؤخر الله منها ما يشاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات "، كذلك الدعاء يعين العبد على بر والديه والتربية الإيمانية وذكر الله وطلب العلم ومرافقة الصالحين، والخوف من سوء الخاتمة وتذكر الموت. برهم حتى لو تحت الثرى بالنسبة لبر الوالدين في الحياة فإنه على المرء مراعاة طاعتهما في كل ما يأمرانه إلا المعصية لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، مخاطبتهما بلطف وأدب، المحافظة على سمعتهما ومالهما ومشاورتهما في كل الأعمال، العمل على ما يسرهما حتى وإن لم يطلبانه، مع عدم لومهما لو فعلا ما لا يعجبك، قضاء دينهما أثناء الحياة وبعد الممات، رعايتهما في المرض والسهر على راحتهما. وتكون المشكلة في بعد ممات أحد الوالدين أو كلاهما حيث أن الموت بلا شك مصيبة كبرى على الأبناء، وبعض الأبناء ينهار تماما أمام هذا الحدث، والبعض الآخر يحول أحزانه لدافع للعيش بإيمان راسخ وحب الله. لا ينقطع البر بموت الوالدين فلدى الإنسان العديد من الأعمال التي يبرهما بها ومنها الدعاء والاستغفار والصدقة "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال:" إن العبد ليموت والداه أو أحدهما، وإنه لهما لعاق.. فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله بارا". وكذلك إنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة أقاربهما وأصدقائهما، وقضاء الدين عنهما سواء أكان أموالا أم صوم أو حج، ومن البر بهما بعد الموت كذلك زيارة قبرهما، وقراءة القرآن على روحيهما والدعاء لهما بالمغفرة والرحمة.
وعلى الأم دور كبير لتربية الأبناء ومنه إفهامهم الدين الإسلامي بصورة مبسطة، تعويدهم الأخلاق الكريمة الواردة في القرآن الكريم، قص عليهم قصص الأنبياء والصحابة والصالحين والطالحين للاتعاظ، تعويدهم الآداب الإسلامية في كل أمر من زيارة وطعام وملبس ونوم، تشجيعهم على قراءة الكتب، ومن هنا يتحقق فينا قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} عقوق الوالدين وأهل هذا الزمان انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة عقوق الوالدين مما دفع الكثير من الآباء والأمهات للذهاب لدور المسنين، وكان ذلك نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت أواخر السبعينات من سفر الآباء إلى الخارج من أجل كسب المال، وتركوا أولادهم في مراحل سنية خطيرة وتناسوا أن المال ليس هو كل شيء.
وهناك من الأبناء من يتنكر للوالدين من أجل إرضاء الزوجة، وقال صلى الله عليه وسلم:" رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخط الوالدين". ومن أهم مظاهر عقوق الوالدين التبرأ منهم ونبذهم، قال رسول الله (ص): "من العباد عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولا يطهرهم، قيل من أولئك يا رسول الله؟ قال: المتبرئ من والديه، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم". ومن المظاهر سب الوالدين وجاء عن رسول الله (ص): "رأيت ليلة أسرى بي أقواما في النار معلقين في جذوع من نار.. فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يشتمون آبائهم وأمهاتهم في الدنيا"، كما انه من مظاهر العقوق التسبب في سب الوالدين قال فعن رسول الله (ص): "من الكبائر شتم الرجل والديه.
قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه". عقوبة عقوق الوالدين يعجل الله عز وجل بعقوبة العقوق فقد قال رسول (ص): " كل الذنوب يؤخر الله ما يشاء منها إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجل لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات " ومن العقوبات ألا ينظر الله يوم القيامة لعاق والديه وعدم دخوله الجنة قال رسول الله (ص):" ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أصله".
ومن ضمن عقوبات العقوق ألا يقبل الله من العاق عملا فعن قال رسول الله (ص): " ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف "، وكذلك اللعن فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير تخوم الأرض، ولعن الله من سب والديه ". إن الحرص على الدنيا من أسباب العقوق بالطبع، إضافة لاستبداد الوالدين بالرأي وإن كان خاطئا، وأصدقاء السوء وأخيرا ضعف الإيمان.
جزاء الإحسان نذكر لكم قصة من واقع الحياة كانت أم تبلغ من العمر 65 عاما تركت شقتها الكبيرة لقيم فيها ابنها الموظف مع زوجته وأولاده بعد أن عجز عن إيجاد شقة تناسب إمكانياته واحتفظت لنفسها بحجرة واحدة لإقامتها في نفس الشقة، ثم قام الابن وزوجته بتجديد أثاث الشقة وإعادة طلاء الجدران إلا حجرة الأم أهملها دون تجديد، طلبت منه الأم أن يعيد طلاء حجرتها بعد أن تآكلت جدرانها واتسخت، ولكنه راوغها وتعلل بقلة النقود، غير أن الأم لم تتحمل قذارة الغرفة فتوسلت له ثانية فثار الابن وتشاجر معها واشتركت معه زوجته، ثم انهال كل منهما عليها ضربا وركلا، ووسط دموعها أقسمت أنها ستعيش في غرفتها كما هي، غير أن الابن اشتدت ثورته فأمسك بيد الفأس وانهال عليها فسقطت مغشيا عليها، وبعد أن أفاقت طردها من المنزل!! الدولة والمسنين ما هو دور الدولة لحماية المسنين ورعايتهم وتوفير الأمن والسلام لهم؟ وما هي الأسس التي يجب أن توفرها للقضاء على الانحراف وتقليل ظاهرة عقوق الوالدين...؟ قال الله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}.
إن إيداع المسن في دور المسنين لا يكون إلا نتيجة لتقصير الأبناء في رعاية الوالدين، ولذلك فمن الواجب عليهم رعاية الآباء والأمهات داخل بيوتهم، لأن المسنين يفتقدون الجانب الروحي والنفسي داخل دار المسنين، وهما بحاجة للسكن النفسي وبأن يشعروا بأن أبنائهم يشاورونهم في أمور الحياة ولا يعتبرونهم عبئا عليهم، أما عن اهتمام الدولة بدور المسنين فقد قال صلى الله عليه وسلم:" ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".